قد أفلح من زكّاها

     بسم الله الرحمن الرحيم

أختي المسلمة … للنفس وجهان : نفس زكية تقية طائعة لله مطمئنة ، ونفس خبيثة طماعة هاوية وهي  النفس الأمارة بالسوء ..فاحذريها كما يحذر الجنود أعداءهم … وهي أقرب عدو لك وأقرب عدو لكل إنسان على قدر إيمانه .وهي دائما في حالة حرب واستنفاروهجوم  كلما أتاحت لها الفرصة لذلك وكلما ضعف الإيمان في القلوب كلما كان رصيدها في الغلبة وبلوغ غايتها وسيطرتها على الإنسان أسهل وأمرّ

 لقد شبهت النفس وكأنها معسكر للأعداء وهم يتربصون بنا عن بعد للنيل منا .في هذه الحال.. أولا علينا أن نحمي أنفسنا منهم وأن نتحصّن داخل حصن منيع عالي الأسوار ومجهز بكل وسائل الدفاع لكي  نتهيأ لمجابهة العدو ومقاومته في حال شن أي هجوم  مفاجئ . وكلما كان الحصن منيعا كلما كان نصيب الأعداء من الفوز قليلا او معدما ..وكلما كانت وسائل الدفاع لدينا قوية وحديثة وفعالة ، كلما كانت نوايا  العدو من شن اي هجوم  فيه أكثر ترددا و تراجعا  ،وكلما كنا أكثر وعيا وترقبا  وأكثر حذرا ، كلما كانت خيبتهم وفشلهم وتراجعهم أكبر وأمر.

أختي المسلمة …النفس لا تختلف عن العدو كثيرا ..فالعدو غايته الفتك  والإذلال والدمار.. و النفس الأمارة بالسوء تدمرنا وتذلنا وتودي بنا إلى هاوية الجحيم إن سمعنا لها وأطعناها فنصبح  كالعجينة اللينة بين يديها وتصيّرنا كما تشاء وتهوى . والله يخبرنا كيف انصاع قابيل لنفسه الأمارة بالسوء من غيرته وحقده على أخيه هابيل وأطاع نفسه فقتل أخاه ، بقوله تعالى :” فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِ‌ينَ ﴿المائدة: ٣٠﴾

والعدو  سلاحه الأدوات المدمرة التي تختلف في كل زمان ومكان…والنفس الأمارة بالسوء أيضا سلاحها أدوات مدمرة أيضا وهي الهوى والرغبات والشهوات وحب المال والسيطرة وحب الإمتلاك. قال تعالى في كتابه العزيز  في سورة النازعات: بسم الله الرحمن الرحيم: “. وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَ‌بِّهِۦ وَنَهَى ٱلنَّفْسَ عَنِ ٱلْهَوَى ﴿٤٠﴾﴿النازعات: ٤٠﴾ وقال تعالى في سورة الشمس:” وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّىهَا ﴿٧﴾ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَ‌هَا وَتَقْوَىهَا ﴿٨﴾ قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّىهَا ﴿٩﴾ وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّىهَا ﴿١٠

 وقال تعالى عن امرأة العزيز في سورة يوسف: ” وَمَا أُبَرِّ‌ئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَ‌ةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَ‌حِمَ رَ‌بِّي إِنَّ رَ‌بِّي غَفُورٌ‌ رَّ‌حِيمٌ )

فكيف نحذر عدونا وكيف ننقذ أنفسنا من عدونا المتربص بنا دائما وأبدا حتى الممات؟

وكيف نطوّع النفس ونزكيها بعد أن نتغلب عليها وننهاها عن الهوى  حتى تكون دائما في سبيل الخير والتقوى ؟

فالعدو كلما كان بعيدا عنا كلما كان خوفنا منه أقل وأخف ولا نبالي له ولوجوده . فإذا رأيناه اقترب ودنا ، بدأت المخاوف منه وبدأ الإستعداد  له وتبدأ التحصينات وبناء الأسوار ، وصنع الأسلحة ، وتدريب الجنود..حتى إذا ما شارف الأسوار والتحم الجيشان يصبح الدفاع عن النفس بالمواجهة أقوى وأعمق  ، فالفكرة هنا كلما كان اقرب كلما كان الدفاع أقوى وأشد شراسة …فما بالك بالنفس التي هي في داخل كل إنسان ؟ فهي النصف الآخر للجسد وقرينه، قال تعالى: وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ ﴿التكوير: ٧﴾ أي يوم الحساب ويوم القيامة ستقترن النفوس بأجسادها لتحاسب.

 والنفس تعلم كل العلم عما يفرحنا وعما يبكينا وعما نرغب ونشتهي وعما نحب ونهوى … فهي تحب السيطرة وتحب التملك وتحب التبرج والتسلط وتحب الحصول على كل ما تشتهيه وتهوى وتحب التباهي والتبختر والتعالي.. فإن طاوعها الجسد ولبّى كل متطلباتها، فإن نال بعض نصيبه من النعم في الدنيا لكنه هلك وخاب في الآخرة “وقد خاب من دسّاها” ،ومن قاوم النفس ونهاها عن الهوى كان ” قد أفلح من زكاها”ويوم الحساب تلقي كل نفس حسابها مما عملت من خير أو شر ،  ( يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ‌ مُّحْضَرً‌ا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُ‌كُمُ اللَّـهُ نَفْسَهُ وَاللَّـهُ رَ‌ءُوفٌ بِالْعِبَادِ) ﴿آل عمران: ٣٠﴾

أليس مقاومة النفس ومقاومة الهوى وما فيه من رغبات وشهوات تتطلب الكثير من الجهد والتعب واليقظة  والتسلح؟ بلى ..وما هو سلاحنا لهوى النفس اللوامة والأمارة بالسوء؟

قوة الإيمان ..وقوة الإيمان لا تأتي عن عبث ولكن بالعمل الصالح وبحب الله والخوف من الله والإكثار من الإذكار والكثرة من الصلاة والصوم النوافل بعد الفروض . فكلما زدنا من العمل الصالح وكلما خبتت النفس وكلما زدنا من الإذكار والإستغفار والتسبيح والتهليل والتكبير ،كلما كبرت النفس الزكية فينا وخمدت النفس اللاهية الأخرى ..وكلما أكثرنا من الإستغفار  خاصة بعد أي ذنب اقترفناه ولو كان بسيطا جدا ،  أو سيئة طفيفة فعلناها عن غير قصد سارعنا إلى الإستغفار عسى أن يغفر الله لنا سيئاتنا وحتى نمحو آثارها بسرعة ،فسرعة الإستغفار عظيمة جدا ، فهي تنجينا من المهالك وتقوي النفس الزكية وتعيدها إلى قرارها وحالتها الأولى نقية طاهرة خيّرة قبل أن تتكاثر عليها الذنوب والمعاصي فتصبح  عاجزة وبليدة ومستسلمة لكل شر طارئ ولكل هوى فاسق فاسد،فتهلك ويهلك صاحبها الإنسان ..

قال الله تعالى :”وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُ‌وا اللَّـهَ فَاسْتَغْفَرُ‌وا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ‌ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّـهُ وَلَمْ يُصِرُّ‌وا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴿آل عمران: ١٣٥﴾

السرعة في الإستغفار مهمة ومطلوبة:

ومثل حال سرعة الإستغفار من الذنب كمثل حال المعدة وسرعة التخلص من الطعام الفاسد ، فالمعدة تشعر بسرعة ان الطعام فاسد أو مسمم فلا تتقبله وتسرع برفضه وإعادته  بإرجاعه للخارج وتسمى عملية مراجعة او إستفراغ  أي إفراغ المعدة من الطعام من حيث جاء، قبل أن يذوب ويتحول إلى مادة سائلة وينزل إلى الأمعاء ويدخل في الدم فيفسده ويسبب بحالة وفاة او مرض . في هذه الحال إن سرعة عملية إستفراغ .الطعام وتنظيف المعدة تنجي صاحبها من الموت.. .وسبحان الله لاحظت أن كلمة إستفراغ وإستغفار تحملان  الحروف ذاتها . وكلاهما هنا لهما نفس الهدف والمعنى وهو التخلص من الفساد والهلاك….فكم من مرة سمعنا الطبيب يشير ويؤيد سرعة إحضار المريض الى المستشفى ويكون ذلك في صالحه وسببا لإنقاذ حياته  ..لذلك السرعة مطلوبة وواجبة لإنقاذ مريض من الموت وكذلك المذنب من الهلاك…فكما تقدير سرعة إستفراغ الطعام الفاسد أو السم ينقذ صاحبه، وكذلك سرعة الإستغفار .. وكلما كانت نسبة التسمم عالية ،كلما طلبت شروطا أكبر لتفادي التسمم كالإسراع إلى المستشفى كحالة قصوى.. وكذلك الذنب إذا كان كبيرا فوسائل الإستغفار يمكن أن تكون أكبر بالإكثار من الأعمال الصالحة  وممكن أن تكون بالصوم أو بالعمرة أو بإنفاق كبير على الفقراء والمساكين حتى يقبل الله توبة التائب ويغفر له والله أعلم بعباده وهو الغفور الرحيم ..

أختي المسلمة … حصّني نفسك  وزكّيها  وقويها بالتقوى وفعل الخير والعمل الصالح لكي تقودك إلى الفلاح  ، ولا تكوني من اللواتي ظلمن أنفسهن بأن تدعي نفسك عرضة للأهواء والغوى ،ولا تتخاذلي وتشرّعي الباب للمعاصي والذنوب  فتقودك إلى الهلاك.. فكري بالتغلب على كل ما يواجهك من مصاعب وادعي الله كثيرا بأن تجاوزي محنتك وأن يقوي إيمانك ويثبت عزيمتك على مواجهة الصعاب وأن يزيح الغمة عن عينيك …عوّدي نفسك على ذكر الله كيفما تحركت في المشي او في الجلوس أو في العمل  ،وغذّي روحك بقراءة القرآن والإذكار  وقيام الليل قدر استطاعتك ، وعوّدي أذنك على سماع تلاوة القرآن والمدائح النبوية بدل سماع الأغاني وغيرها مما لا يرضي الله ،.. سبّحي الله واذكريه كلما نظرت إلى زهرة أو فراشة جميلة  أو عصفور ، ذكّري نفسك بأن كل شيئ هالك إلا وجهه …وأننا مراقبون وأننا محاسبون في كل حركة نقوم بها :”إن كل نفس لمّا عليها حافظ” (سورة الطارق) ، وقال تعالى وقد أقسم بالنفس اللوامة :” لَآ أُقْسِمُ بِيَوْمِ ٱلْقِيَـمَةِ ﴿١﴾ وَلَآ أُقْسِمُ بِٱلنَّفْسِ ٱللَّوَّامَةِ ﴿٢﴾ سورة القيامة )

وأيضا أننا محاسبون عما نفعل ونقول بقوله تعالى :” بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَ‌ةٌ * (١٤﴾وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَ‌هُۥ ﴿١٥﴾﴿سورةالقيامة )..كل تلك هي أدواتنا التي بها نواجه النفس الأمارة بالسوء ،حتى تضمحل وتناى ويزول كل أثر لها وتحلّ مكانها النفس التقية الزكية المطمئنة .  وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْ‌جَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّـهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴿البقرة: ٢٨١﴾

وأختم بهذه  الآية من سورة الفجر :” يَـٓأَيَّتُهَا ٱلنَّفْسُ ٱلْمُطْمَئِنَّةُ ﴿٢٧﴾ ٱرْ‌جِعِىٓ إِلَى رَ‌بِّكِ رَ‌اضِيَةً مَّرْ‌ضِيَّةً ﴿٢٨﴾ فَٱدْخُلِى فِى عِبادي  ﴿٢٩﴾ وَٱدْخُلِى جَنَّتِى ﴿٣٠﴾صدق الله العظيم .

Scroll to Top